كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فيحصل له الإيمان بتمامه من خلق ما خلقه على أحسن نظامة. وإنما وحد الآية هاهنا لأنه إشارة إلى التوحيد وهو سبحانه واحد لا شريك له. وفي قصة إبراهيم إشارة إلى النبوة وفي النبيين صلى الله عليه وسلم كثرة. وحيث قوى قلب المؤمنين بالتخصيص المذكور سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: {اتل ما أوحي إليك من الكتاب} لتعلم أن نوحًا ولوطًا وغيرهما بلغوا الرسالة وبالغوا في إقامة الدلالة، ولم ينقذوا قومهم من الضلالة والجهالة، ولهذا قال: {اتل} ولم يقل اتل عليهم لأن التلاوة بعد اليأس منهم ما كانت إلا لتسلية قلب النبي صلى الله عليه وسلم. أو نقول: إن الكاتب الإلهي قانون كلي فيه شفاء للصدور فيجب تلاوته مرة بعد أخرى ليبلغ إلى حد التواتر وينقله قرن إلى قرن ويأخذه قوم من قوم إلى يوم النشور.
وأيضًا فيه من العبر والمواعظ ما يهش لها الأسماع وتطمئن إليها القلوب كالمسك يفوح لحظة فلحظة، وكالروض يستلذه النظر ساعة فساعة. وفي الجمع بين الأمرين التلاوة وأقامة الصلاة معنيان: أحدهما زيادة تسلية النبي صلى الله عليه وسلم كأنه قيل له: إذا تلوت ولم يقبل منك فأقبل على الصلاة لأنك وساطة بين الطرفين، فإن لم يتصل الطرف الأول وهو من الخالق إلى المخلوق، فليتصل الطرف الآخر وهو من المخلوق إلى الخالق. والثاني أن العبادات إما اعتقادية وهي لا تتكرر بل تبقى مستمرًا عليها. وإما لسانية، وإما بدنية خارجية وافضلها الصلاة، فأمر بتكرار الذكر والصلاة حيازة للفضيلتين ثم علل الأمر بإقامة الصلاة فقال: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} فقال بعض المفسرين: اراد بالصلاة القرآن وفيه النهي عنهما وهو بعيد وقيل: أراد نفس الصلاة وإنما تنهى عنهما ما دام العبد في الصلاة، وضعف بأنه ليس مدحًا كاملًا لأن غيرها من الأعمال الفاضلة والمباحة قد يكون كذلك كالنوم وغيره. والذي عليه المحققون أن للصلاة لطفًا في ترك المعاصي فكأنها ناهية عنها وذلك إذا كانت الشروط من الخشوع وغيره مرعية. فقد روي عن ابن عباس: من لم تأمره صلاته بالمعروف ولم تنهه عن المنكر لم يزدد بصلاته من الله إلا بعدًا. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له: إن فلانًا يصلي بالنهار ويسرق بالليل. فقال: «إن صلاته لتردعه» وروي أن فتى من الأنصار كان يصلي معه الصلاة ثم يرتكب الفواحش، فوصف ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إن صلاته ستنهاه» فلم يلبث أن تاب وعلى كل حال فالمراعي لأوقات الصلاة لابد أن يكون أبعد من القبائح. واللفظ لا يقتضي إلا هذا القدر وكيف لا تنهى ونحن نرى أن من لبس ثوبًا فاخرًا فإنه يتجنب مباشرة القاذورات، فمن لبس لباس القتوى كيف لا يتجنب الفواحش.
وإيضًا الصلاة توجب القرب من الله تعالى كما قال: {واسجد واقترب} [العلق: 19] ومقرّب الملك المجازي يجل منصبه أن يتعاطى الشغال الخسيسة فكيف يكون مقرب الملك الحقيقي؟ وأيضًا من دخل في خدمة الملك فأعطاه منصبًا له مقام خاص مرتفع فإذا دخل وجلس في صف النعال لم يتركه الملك هنالك، فإذا صار العبد برعاية شروط الصلاة وحقوقها من أصحاب اليمين فكيف يتركه الله الكريم في اصحاب الشمال؟ وتفسير الفحشاء والمنكر مذكور مرارًا، وقال أهل التحقيق: الفحشاء التعطيل وهو إنكار وجود الصانع، والمنكر الإشراك به وهو إثبات إله غير الله وذلك أن وجود الواجب الواحد أظهر من الشمس وإنكار الظاهر منكر ظاهر. واعلم أن الصلاة لها هيئة فأولها وقوف بين يدي الله كوقوف العبد بين يدي السلطان، وآخرها جثو بين يدي الله كما يجثو أهل الإخلاص بين يدي السلطان.
وإذا جثا في الدنيا هكذا لم يجث في الآخرة كما قال: {ونذر الظالمين فيها جثيًا} [مريم: 72] فالمصلي إذا قال الله نفى التعطيل وإذا قال أكبر نفى الشرك لأن الشريك لا يكون أكبر من الشريك الآخر فيما فيه الاشتراك، وإذا قال: {بسم الله} نفى التعطيل، وإذا قال: {الرحمن الرحيم} نفى الإشراك لأن الرحمن هو المعطي للوجود بالخلق والرحيم هو المفيض للبقاء بالرزق، وهكذا {الحمد لله} خلاف التعطيل، وقوله: {رب العالمين} خلاف التشريك وفي قوله: {إياك نعبد} نفي التعطيل والإشراك من حيث إفادة التقديم الاختصاص بالعبادة، وكذا قوله: {وإياك نستعين} وفي قوله: {اهدنا الصراط} نفى التعطيل لأن المعطل لا مقصد له. وفي قوله: {المستقيم} نفى الإشراك لأن المستقيم أقرب الطرق وهو أحد، والمشرك يزيد في الطريق بتحصيل الوسائط. وعلى هذا إلى آخر الصلاة وهو قوله في التشهد أشهد أن لا إله إلا الله نفى التعطيل والإشراك، فأول الصلاة الله وآخرها الله. ثم إن الله سبحانه كأنه قال للعبد: أنت إنما وصلت إلى هذه المنزلة الرفيعة بهداية محمد صلى الله عليه وسلم، فقل بعد ذكري: أشهد أن محمدا رسول الله، واذكر إحسانه بالصلاة عليه. ثم إذا رجعت من معراجك وانتهيت إلى إخوانك فسلم عليهم وبلغه سلامي كما هو دأب المسافرين {ولذكر الله} أي الصلاة {أكبر} من غيرها من الطاعات. وفي تسمية الصلاة بالذكر إشارة إلى أن شرف الصلاة بالذكر. وجوز في الكشاف أن يراد ولذكر الله عند الفحشاء والمنكر وذكر نهيه عنهما ووعيده عليهما أكبر فكان أولى بأن ينهى من اللطف الذي في الصلاة. وعن ابن عباس: ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بالطاعة. {والله يعلم ما تصنعون} من الأعمال فيثيبكم أو يعاقبكم على حسب ذلك.
وحين بين طريقة إرشاد المسلمين ونفع من انتفع واليأس ممن امتنع، أراد أن يبين طريقة إرشاد أهل الكتاب وهي مجادلتهم بالخصلة التي هي أحسن، يعني مقابلة الخشونة باللين والغضب بالحلم والعجلة بالتأني. قال بعض المفسرين: أراد لا تجادلهم بالسيف وإن لم يؤمنوا إلا إذا ظلموا فنبذوا الذمة أو منعوا الجزية. وقيل: إلاّ الذين اشركوا منهم بإثبات الولد لله والقول بثالث ثلاثة وقيل: إلا الذين آذوا رسول الله. والتحقيق أن أكثر أهل الكتاب جاؤا بكل حسن إلا الاعتراف بمحمد صلى الله عليه وسلم فوحدوا وآمنوا بإنزال الكتب وإرسال الرسل والمبدأ والمعاد، فلمقابلة إحسانهم يجادلون أولًا بالأحسن، ولا تستهجن آراؤهم ولا ينسب إلى الضلال آباؤهم بل يقال لهم {آمنا بالذي أنزل إلينا} إلى آخر الاية.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان باطلًا لم تصدقوهم، وإن كان حقًا لم تكذبوهم» ثم ذكر دليلًا قياسيًا فقال: {وكذلك} يعني كما أنزلنا على من تقدمك أنزلنا عليك وقال جار الله: هو تحقيق لقوله: {آمنا بالذي أنزل إلينا} اي ومثل ذلك الإنزال أنزلناه مصدقًا لسائر الكتب السماوية. {فالذين آتيناهم الكتاب} هم عبد الله بن سلام وأضرابه {ومن هؤلاء} اي من اهل مكة أو الأولون هم الأقدمون من أهل الكتاب، والآخرون هم المعاصرون منهم للنبي صلى الله عليه وسلم وقيل: الأولون هم الأنبياء لأن كلهم آمنوا بكلهم ومن هؤلاء هم أهل الكتاب {وما يجحد بآياتنا} مع وضوحها إلا المصرون على الكفر المتوغلون فيه نحو كعب الأشرف وأصحابه. واعلم أن المجادل إذا ذكر مسألة خلافية كقوله: الزكاة تجب في مال الصغير. فإذا قيل له: لم؟ قال: كما تجب النفقة في ماله ولا يذكر الجامع بينهما. فإن فهم الجامع من نفسه فذاك، وإلا قيل له: لأن كليهما مال فضل عن الحاجة. فالله سبحانه ذكر أولًا التمسك بقوله: {وكذلك أنزلنا} ثم ذكر الجامع بقوله: {وما كنت تتلو} الآية. وفي قوله: {بيمينك} زيادة تصوير لما نفى عنه من كونه كاتبًا. ومعنى {إذا لارتاب} لو كان شيء من ذلك أي من التلاوة والخط لارتاب {المبطلون} من أهل الكتاب، وارتاب الذين من شأنهم الركون إلى الأباطيل، لأن النبي إذا كان قارئًا كاتبًا أمكن أن يسبق إلى الوهم أن الكلام كلامه لا كلام الله، وإذا كان أميًا فلا مجال لهذا الوهم. أو المراد أن سائر الأنبياء لم يكونوا أميين ووجب الإيمان بهم لمكان معجزتهم فهبوا أنه قارئ كاتب اليس صاحب آيات ومعجزات فإذا هم مبطلون على كل حال. ثم أكد إزالة ريبهم بقوله: {بل هو} يعني القرآن {آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم} وهو الحفاظ والقراء وسائر الكتب السماوية، ما كانت تقرأ إلا من القراطيس ولهذا جاء في صفة هذه الأمة صدورهم أناجيلهم {وما يجحد بآياتنا} الباهرة النيرة إلا المتوغلون في الظلم. سماهم أولًا كافرين لأجل مجرد الجحود، ثم بعد بيان المعجزة سماهم ظالين لأن الكفر إذا انضم معه الظلم كان أشنع. ويجوز أن يراد بالظلم الشرك كأنهم بغولهم في الجحود ألحقوا بأهل الشرك حكمًا أو حقيقة. ولما بين الدليل من جانب النبي صلى الله عليه وسلم ذكر شبهتهم وهي الفرق بين المقيس والمقيس عليه، وذلك أن موسى أوتي تسع آيات علم بها كون الكتاب من عند الله وأنت ما أوتيت شيئًا منها فأرشد الله نبيه إلى الجواب وهو أن يقول: {إنما الآيات عند الله} ووجههأنه ليس من شرط الرسالة إظهار المعجزة وإنما المعجزة بعد التوقف في الرسالة، ولهذا علم وجود رسل كشيث وادريس وشعيب، ولم يعلم لهم معجزة وكان في بني إسرائيل أنبياء لم تعرف نبوتهم إلا بقول موسى أو غيره، فليس على النبي إلا النذارة.
وأما إنزال الآية فإلى رحمة الله إذا شاء تخليص القوم من تصديق المتنبئ وتكذيب النبي. ثم قال: {أولم يكفهم} الآية. والمعنى هبوا أن إنزال الآية شرط أليس القرآن المتلو الذي أخرس شقاشق فصائحهم كافيًا في بيان الإعجاز؟ {إن في ذلك} المتلو على وجه الأرضين {لرحمة} من الله على الخلق وإلا اشتبه عليهم النبي بالمتنبئ {وذكرى} ليتعظ بها الناس ما بقي الزمان. وإنما كانت هذه الرحمة من الله على الخلق والتذكرة مختصة بالمؤمنين، لأن المعجزة للكافرين سبب لمزيد الإنكار المستلزم لإلزام الحجة والخلود في النار، ثم ختم الدلائل بأن أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بكلام منصف وهو قوله: {كفى بالله بيني وبينكم شهيدًا} وقال في آخر سورة الرعد {قل كفى بالله شيهدًا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب} [الآية: 43] لأن الكلام هناك مع المشركين فاستشهد عليهم بأهل الكتاب أيضًا وأما هنا فالكلام مع أهل الكتاب فاقتصر على شهادة الله، ثم بين كون شهادة الله كافية بقوله: {يعلم ما في السموات والأرض} ثم هددهم بقوله: {والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله} وهما متلازمان لأن الإيمان بما سوى الله وهو الباطل الهالك الزائل الزاهق كفر بالله وجحود بحقه. {أولئك هم الخاسرون} لا يستحق لهذا الاسم في الحقيقة غيرهم إذ لا غبن افحش من اشتراء الباطل بالحق والكفر بالإيمان وإضاعة العمر في ما عبادة مالا ينفعهم بل يضرهم قيل: إن ناسًا من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتف قد كتبوا فيها بعض ما يقول اليهود، فلما نظر إليها ألقاها وقال: كفى بها حماقة قوم أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم فنزلت {أولم يكفهم} الآية. ويروى أن كعب بن الأشرف وأصحابه قالوا: يا محمد من يشهد لك بأنك رسو الله؟ فنزلت {قل كفى} الآية. فعلى هذا فالآية نازلة في المشركين، وعلى امر فهل يتناول أهل الكتاب؟ قالوا: نعم، لأنه صح عندهم معجزة محمد صلى الله عليه وسلم وقطعوا بأنها ليست من عند الله بل من تلقاء محمد صلى الله عليه وسلم فيلزمهم أن يقولوا: إن محمدًا هو الله فيكون إيمانًا بالباطل وكفرًا بالله. قلت: ولعل وجه التناول هو أنهم آمنوا بالمحرف من التوراة وعبدوا العجل والله أعلم. ثم إن النضر بن الحرث وغيره من كفار قريش كانوا يستعجلون بالعذاب كما مر استهزاء منهم وتكذيبًا فنزلت {ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى} هو الموت أو يوم بدر أو ما كتب في اللوح أنه لا يعذب هذه الأمة عذاب الاستئصال إلى يوم القيامة.
وقوله: {وهم لايشعرون} تأكيد للبغتة، أو هو كلام مستقل أي إنهم لا يشعرون هذا الأمر ويظنون أن العذاب لا يأتيهم اصلًا.
ثم كرر قوله: {يستعجلونك بالعذاب} تعجبًا منهم وتعجيبًا، فإن من توعد بأمر يسير كلطمة أو لكمة يحتمل أن يظهر من نفسه الجلادة ويقول: هات ما عندك. وأما الذي توعد بإحراق ونحوه فكيف يتجلد ويستعجل خصوصًا إذا كان الموعد لا يخلف الميعاد ويقدر على كل ما اراد. وقوله: {لمحيطة} بمعنى الاستقبال أي ستحبط بهم يوم كذا ويجوز أن يكون بمعنى الحال حقيقة لأن المعاصي التي توجبها محيطة بهم في الدنيا، أو مجازًا لأن جهنم مآلهم ومرجعهم فكأنها الساعة محيطة بهم. والظرف على هذين الوجهين منصوب بمضمر اي {يوم يغشاهم العذاب} كان كيت وكيت. وإنما خص الغشيان بالفوق والتحت دون باقي الجهات، لأن نار جهنم بذلك تتميز عن نار الدنيا لأن نار الدنيا، لا تنزل من فوق ولا تؤثر شعلتها من تحت بل تنطفئ الشعلة تحت القدم، وإنما لم يقل ومن تحتهم كما قال: {من فوقهم} لأن نزول النار من فوق عجيب سواء كان من سمت الراس أو من موضع آخر. وأما الاشتعال من تحت فليس بعجيب إلا حيث يحاذي الرجل. ويجوز أن يكون زيادة الأرجل تصويرًا لوقوفهم في النار أو لجثوهم فيها. وقوله: {ذوقوا ما كنتم} أي جزاء ما كنتم تعملونه أمر إهانة، وحين ذكر حال الكفرة من أهل الكتاب والمشركين وجمعهم في الإنذار وجعلهم من اهل النار اشتد عنادهم وزاد فسادهم وسعوا في إيذاء المؤمنين ومنعهم من عبادة الله فقال: {يا عبادي} فإن كانت الإضافة للتشريف كقوله: {عينًا يشرب بها عباد الله} [الدهر: 6] فقوله: {الذين آمنوا} صفة موضحة. وإن كانت للتخصيص فهي صفة مميزة.
ومعنى الآية أن المؤمن إذا لم يتسهل له عبادة الله في بلد على وجه الإخلاص فليهاجر عنه إلى بلد يكون فيه أفرغ بالًا أو ارفع حالًا وأقل عوارض نفسانية وأكمل دواعي روحانية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن مان شبرًا من الأرض استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد» واعلم أني عند الوصول إلى تفسير هذه السورة عنَّ لي سفر من غير اختيار كلي فأقول متضرعًا إلى الله الكريم ومستمدًا من إعجاز الفرقان العظيم: اللهم إن كنت تعلم أن هذا السفر مشوب بشيء من رضاك فإن كل الرضا لا يمكنني أن أراعيه فاجعله سببًا لنجح المقاصد وحصول المآرب والاشتمال على الفوائد الدنيوية والدينية والخلاص من شماتة الأعداء الدنية حتى أفرع لنشر العلوم الشرعية إنك على ما تشاء قدير وبالإسعاف والإجابة جدير.
والفاء في قوله: {فإياي} للدلالة على أنه جواب الشرط كأنه قال: إذا كان لا مانع من عبادتي {فاعبدوني} ثم أريد معنى الاختصاص والإخلاص فقدم المفعول على شريطة التفسير، وجيء بالفاء الثانية الدالة على ترتيب المقتضى على المقتضي كما يقال: هذا عالم فأكرموه كما مر في قوله: {وإياي فارهبون} [البقرة: 40] فصار حاصل المعنى: إن لم تخلصوا العبادة لي في ارض فاخلصوها لي في غيرها. والفائدة في الأمر بالعبادة بعد قوله: {يا عبادي} الدال على العبودية إما المداومة أي يا من عبدتموني في الماضي اعبدوني في المستقبل، أو الإخلاص في العبادة. ويجوز أن يقال: العبودية غير العبادة، فكم من عبد لا يطيع سيده، ثم لما أمر المؤمنين بالمهاجرة صعب عليهم ترك الأوطان ومفارقة الإخوان والخلان فقال: {كل نفس ذائقة الموت} أي إن الذي تكرهون لابد من وقوعه فالأولى أن يكون ذلك في سبيل الله {ثم إلينا ترجعون} فنثيبكم على ذلك، وفيه أن كل نفس ذائقة الموت اضطرارًا فمن اراد أن لا يموت ابدًا فليمت اختيارًا فإن أولياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار. ثم بين أن للمؤمنين الجنان في مقابلة ما للكافرين من النيران، وأن في الجنة غرفًا تجري من تحتها الأنهار في مقابلة ما يحيط بالكافرين من النار. وبين أن ذلك أجر عملهم بقوله: {نعم أجر العالمين} بإزاء ما بين جزاء عمل الكفار بقوله: {ذوقوا ما كنتم تعلمون} وقوله: {لنبوئنهم} أَ لننزلنهم {من الجنة} عوالي ومن قرأ بالثاء المثلثة فمن الثواء يقال: ثوى في المنزل لازمًا وأثوى غيره متعديًا إلى واحد. فانتصاب {غرفًا} إمات بنزع الخافض، وإما لتضمين الإثواء معنى التبوئة والإنزال، وإما التشبيه الظرف المؤقت بالمبهم. ثم مدح {الذين صبروا} على المكاره في الحال. {وعلى ربهم يتوكلون} فيما يحتاجون إليه في الاستقبال. وكل واحد من الصبر والتوكل يحتاج إليه المسافر والمقيم، فكما أن المهاجر يصبر على فراق الأوطان ويتوكل في سفره على الرحمن، فالمتوطن يصبر على الأذيات والمحن ويتوكل في أموره على فضل ذي المنن. والصبر والتوكل صفتان لا تحصلان إلا مع سعة العلم بالله وبما سوى الله، فمن علم أنه باق لا يصبر عنه ولا يتوكل في الأمور إلا عليه، ومن علم أن ما سواه فإن هان عليه الصبر وعلم أنه لا يصلح للاعتماد عليه. ثم ذكر ما يعين على الصبر والتوكل وهو النظر في حال الدواب. وقال المفسرون: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من اسلم بمكة بالهجرة خافوا الفقر والضيعة فكان الرجل منهم يقول: كيف اقدم بلدة ليست لي فيها معيشة فنزلت {وكاين من دابة لا تحمل رزقها} عن الحسن اي لا تدخره وقال غيره: لا تطيق حمل الرزق {الله يرزقها} بإيجاد غذائها وهدايتها إليه.